الخميس، 4 مارس 2010

رفض الموت 9-6-2008

بعد أيام قليلة من مرور ذكرى النكبة الشهر الماضي ، جاءني كعادته في ساعة متأخرة من الليل ، يطرق الباب بعصاته الذي لم يكن يحتاجها لأغراض التعكّز ، ومعه مصباح كهربائي من النوع الذي يعمل على بطارية كبيرة كبطاريات السيارة ، وكان ما زال في البيت بعض ممن تبقى من الأصدقاء والجيران والأقارب الذين يأتوا عادة للسهر والمسامرة ، وقد تشجعوا للبقاء حين رأوه يدخل ، وفي الغالب لا يجرؤون على المغادرة خوفا من نهره لهم او من عصاته التي سرعان ما يهزها ، بل و استخدامها أيضالفرض رأيه .

كان موضوع زيارته تلك الليلة تقييم المسيرة التقليدية في ذكرى النكبة التي انطلقت من مخيمنا "الدهيشة" ووصلت الى مخيم عايدة عبر مخيم العزة والمفتاح الكبير الذي وضع على شاحنة وقام ابو مازن بعدها بتدشينه وندشين موقعه ، طبعا لقد مشى أبو ابراهيم في المسيرة كما في كل المسيرات الستين السابقة ، بل لربما يكون هو أول من رفع مفتاحا قبل حوالي عشرين سنة ، كان مفتاحا حقيقيا لمنزله في قرية بيت عطاب قضاء القدس .

أراد أن يسمع مني في تلك الليلة إطراء على كلمته التي تحدث فيها عن غزة أرضا فلسطينية وشعبها شعبا فلسطينيا وأبناءها أبناء بررة ، حماس وفتح والشعبية والشيوعيين ،وأنه لم يرق له ما تحدث به أحد معاصريه من مخيم آخر "إذا أرادت إسرائيل أن تعيش معنا بسلام فأهلا وسهلا" الأمر الذي إضطره لانتزاع الميكرفون منه ، لم أستطع استفزازه الا عندما قلت له أنه من جيلك ، إذ يناهز الثمانين عاما ، قال : هذا من جيل أبنائي .

لايعرف أبو ابراهيم عبيد – هكذا عرفناه- كم يبلغ عمره ، لكنه يقول أن بارودته كانت في كتفه عندما دخل الانجليز البلاد ، وأنه احتفظ بشبريته المصنوعة في الخليل منذ عام 1922 حتى قبل ثلاث سنوات عندما سرقها أحد الأغرار ليبيعها بثمن علبة سجائر ، غضب كثيرا على فقدانها ، وغضبنا معه ، دون ان ننجح في ارجاعها .

في تلك الليلة التي لم أكن لأعرف أنها ستكون الأخيرة ، سألني بصوت خافت عن موضوعين : الأول عن معنى حركة التمرد التي تجتاح ام درمان في السودان ، والثاني هل ماتزال العودة بعيدة : أجبته أن نعم ، إنها ما تزال بعيدة ، فقال بمعارضة لم أعهدها في حوارتي معه : لا ليست بعيده أبدا .

وكالعادة قبل أن يغادرنا – بعد يومين الى الأبد - ، غنى لنا أغاني قديمة يجيدها أفضل من خلال ربابته ، ترنم وأستحضر فيها محمد جموم وعطا الزير وفؤاد حجازي حيث كان حاضرا على الاعدام .

ترددت عدة مرات كي أذهب الى قبره لمعاينة إن كان ابو ابراهيم عبيد قد مات حقا ، الشيء الوحيد الذي اشتكى منه في تلك الليلة ابهامه الأيسر . وأدركت أن مبعث عدم تصديقي لخبر موته رغم تجاوزه المئة وعشر سنوات ، هو في الحقيقة رفضي لموتي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق