الخميس، 4 مارس 2010

ماتت والدة محمود درويش 16-2-2009

ماتت والدة محمود درويش عن 96 سنة ، وفي هذا ليس هناك شيئا عجيبا او غريبا ، فكل انسان يموت، بل وكل شيء يموت ، خاصة انها عمرت وثكلت محمود الذي سبقها الى هذا المصير المحتوم ، مصيرنا كلنا ، قبل حوالي ستة اشهر .

ربما كان من العدالة اكثر ان تموت قبله وفق الناموس السماوي: الصغير يدفن الكبير والابن يدفن الاب ، مع ان بلادنا خرجت عليه وأصبح مألوفا لدينا ان يدفن الاباء ابناءهم بسبب ابتلائنا بالدولة العاتية قبل ما يزيد على ستين سنة ، فابتليت هي ايضا بنا وبمقاومة شعبنا العنيد . وذهبت بدورها الى ما ذهبنا اليه ، أن يدفن الاباء ابناءهم ، وهذا ما شدد عليه اسحق رابين لدى توقيع معاهدة السلام مع ياسر عرفات في البيت الابيض قبل ستة عشر سنة حين قال : جئناكم من البلاد التي يدفن فيها الاباء ابناءهم .

من بين الامثلة الاسرائيلية الساطعة ، كانت حالة الاديب الاسرائيلي ديفيد غروسمان الذي دفن ابنه "اوري" البالغ من العمر عشرين سنة ، صحيح انه كان جنديا في صفوف جيش الدولة العاتية ، ما يسمونه بجيش الدفاع الاسرائيلي ، الذي شن حربا على حزب الله في جنوب لبنان صيف 2006 ، وقتل هناك مع العشرات من اترابه ، ورغم ان غروسمان ناهض تلك الحرب ورفض تسلم جائزة دولته من رئيس وزرائها العاتي و الفاسد ايهود اولمرت ، الا انه رضخ لناموس الدولة العاتية ودفن ابنه .

في الحالتين لم يشذ محمود وامه ، وغروسمان وابنه ، عن القاعدة الانسانية او الفلسطينية / الاسرائيلية ، مع الفارق ان الابن في الحالة الاولى هو الاديب الكبير وفي الثانية الجندي المحتل ، هذا مات وهو يكتب ، وذاك مات وهو يقتل .

وفي الحالتين ايضا ، شرب غروسمان حسرة ابنه الجندي ، وشربت ام محمود حسرة ابنها الشاعر .

واذا لم يستطع غروسمان ان يفاخر بإبنه فلذة كبده ، لا شعرا ولا نثرا ، لأنه ذهب ليقتل فقتل ، فإن والدة محمود فاخرت به الدنيا ، ويوم ان ووري الثرى في رام الله بعيدا عن مسقط رأسه ، احضرت معها حفنة من تراب الجليل وضمخت بها جثمانه الساكن .

وإذا لم يستطع الابن الجندي ان يتأثر بوالده كأديب انساني مميز يناهض الحرب ، بل اصبح واحدا من ادوات قتلها وبطشها ، فإن محمود استلهم من امه أجمل ما كتبه شاعر عن حنينه "لخبزها وقهوتها ولمستها" ،وبرحيله قبلها اعفى الكثيرين من المسؤولين في السياسة والادب والنضال عموما ، عناء النعي والتعزية والرثاء، التي لم يظهر منها اعلانا واحدا .

كان يعرف انه سيرحل قبلها حين قال لنا : وتكبر في الطفولة يوما على صدر امي ، واعشق عمري لأني اذا مت أخجل من دمع امي ...

خذيني اذا عدت يوما وشاحا لهدبك ، وغطي عظامي بعشب تعمد من طهر كعبك ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق